معهد الخوئي | Al-Khoei Institute

معهد الخوئي | Al-Khoei Institute
  • الإمام الخوئي
  • المكتبة المرئية
  • المكتبة الصوتية
  • المكتبة
  • الاستفتاءات

منهج الخوئي في بيان عجاز القرآن في كتابه البيان في تفسير القرآن

  • ١٣٥٧٦
  •  

منهج الخوئي في بيان إعجاز القرآن في كتابه البيان في تفسير القرآن


 


أ.م.د. منذر إبراهيم حسين الحلي


جامعة كربلاء / كلية العلوم الإسلامية


 


      المقدمة


       إن الاطلاع على مناهج المفسرين ( قدماء ومحدثين) جم الفوائد , شريف الغاية , إذ يرشدنا الى أحوال الماضين من الأمة الإسلامية في أخلاقهم وسيرهم وكتاباتهم , وبذلك تتم فائدة الاقتداء بهم لمن يرومه في أحوال الدين والدنيا.


        ودراسات السابقين في حقيقة إعجاز القرآن كثيرة ومتنوعة, مبثوثة ومتفرقة في كتب التفسير والإعجاز والبلاغة, يستقري منها الناظر في الغالب أدق قوانين العرب والعربية , في استقامة لغتهم وشرفها , واحتفالهم بها وامتلاك صناعة العربية قد يتطلب العمر كله من الإنسان الذي يطلبها , وهو مع ذلك لا يصل إلاّ الى اليسير منها , وهذا اليسير قد يمنحه عزآ وشرفآ بين قومه . والقرآن الكريم أعظم المعجزات التي جاء بها نبينا الكريم محمد (ص) ,


         وهذا البحث يهدف إلى الكشف عن شخصية قرآنية معاصرة , وإماطة اللثام عن جهود متميزة في بيان إعجاز القرآن بأسلوب علمي رصين , وذلك بعرض حسن للموضوعات مبتعدآ عن التعقيدات والاطالات.


       ذلك هو السيد الخوئي ( صاحب التحقيق والتدقيق) و القطب الذي دارت حوله الحركة العلمية في النجف الاشرف. وكتابه (البيان في تفسير القرآن) من التفاسير الموضوعية المعاصرة , وهو على صغر حجمه إلا أنه غني بأفكاره وطروحاته العلمية ومناقشاته المستفيضة , عرض فيه المؤلف أهم الموضوعات التي تمس جوهر الإسلام .


          و أولى هذه الموضوعات هو موضوع إعجاز القرآن الكريم وحقيقته وتحديداته إذ كشف عما في القرآن من معارف وعلوم وأسرار تشريعية وكونية , فضلا عن إعجازه في الأسلوب البليغ الذي عجز البشر عن مجاراته, والإخبار بالغيب , والوقوف ضد الأوهام والشبهات التي أثيرت حول القرآن, والدفاع عن القرآن برد الاختلاف والتناقض وبيان سر خلوده وشموله .


        وأوضح حكمة تنوع المعجزة وعرض أقسامها , بعد أن شرح معنى الإعجاز في اللغة والاصطلاح, وبين معجزة النبي محمد (ص) وشروطها .


توطئــــــــة


 


مضمون كلام السيد كمال الحيدري بأن القرآن الكريم ينفرد بمزية خاصة لا تتوافر في غيره من معجزات الأنبياء والرسالات السماوية, ذلك انه يمثل المعجزة التي تستند إليها النبوة الخاتمة, الأمر الذي يعني ان القرآن ينبغي ان يكون معجزة على مدى الزمان والدهور الى يوم القيامة, أي أنه خالد في إعجازه, وهذا بخلافه في المعجزات التي جاء بها الأنبياء السابقون للنبي محمد(9) إذ كانت معجزاتهم محدودة بأزمنتهم لا تتوافر  على صفة الخلود التي ثبتت للقرآن. 


       في ضوء ذلك, لابد من اثبات الإعجاز القرآني في خضم هذه التحولات الهائلة التي يشهدها المجتمع الإنساني وعلى مستويات العلوم والثقافات كافة التي يزخر بها الفكر البشري. فكيف نثبت أن القرآن الذي أنزل قبل أربعة عشر قرنا على رجل أمّي يبقى معجزا حتى عصرنا الذي تفجرت فيه براكين العلم وأخرجت العقول كنوزها, وهيمنت فيه قوى الإنسان وإدراكاته على العالم, فبدا أمامها وكأنه قرية صغيرة يتم التحكم بها من خلال مجموعة من الأجهزة المحمولة الصغيرة والأزرار الالكترونية الناعمة.


       نعم لقد اعجز القرآن بلغاء قريش وفصحاءها ببلاغته وأسلوب بيانه, وتحداهم على الإتيان ببعضه غير مرة, ولم ينقل لنا التاريخ أنهم واجهوا هذا التحدي ونجحوا في مقابلته, إلا أننا لا نفهم في هذا الوقت وفي المستقبل القادم لسنا ببلغاء قريش ولا فصحائها حتى أننا قد لا نفهم معنى القصائد العربية القديمة إلا بالرجوع الى معاجم اللغة وكتب الأدب. 


        بل يزداد الأمر صعوبة بالنسبة الى التحدي ببلاغة القرآن وفصاحته وبيانه للأمم غير الناطقة بالعربية. أمام هذه المفارقات لابد من التماس الوجوه الصحيحة التي تضطلع بمهمة إعجاز القرآن(1), والغرض ((إنما هو بيان لطائف الإعجاز, وإدراك دقائقه, واستنهاض عجائبه))(2) وأنه كتاب سماوي تعجز القوى البشر ية عن الإتيان بمثله مهما طال الزمن وترامت الدهور , ولا يمكن حتى للأنس والجن أن يأتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا . ((فالقرآن معجز في تاريخه دون سائر الكتب, ومعجز في أثره الإنساني, ومعجز كذلك في حقائقه, وهذه وجوه عامة لا تخالف الفطرة الإنسانية في شيء))(3). وملحظ مهم جدا أذكره هنا: هو أن الكتب السماوية التي نزلت لهداية البشرية في جميع الأزمان, لم يكتب عنها بهذا الحجم العظيم مثلما كتب عن القرآن الكريم ومن شتى الديانات. ولعمري إن في ذلك سرا عظيما, ولذلك قالوا: ((لاتفنى عجائبه, ولا يخلق على كثرة الرد))(4).


 


حقيقة الاعجاز وتحديداته عند السيد الخوئي


     عرض السيد الخوئي جملة من وجوه الإعجاز في تفسيره (البيان) أوجزها بالآتي: 


        معجزة البيان وبلاغة القرآن: 


       وهذا الوجه من أدق الوجوه التي ذكرها المفسرون في قضية الإعجاز, وهو  ((خير المعجزات))  الذي ((شابه أرقى فنون العصر)) الذي عاش فيه العرب آنذاك. 


وقد توسع السيد الخوئي(5) في بيان أهمية هذا الوجه بعرضه الجوانب التاريخية لاحتفال العرب قديما بشؤون الأدب وفنونه وبراعتهم في البلاغة, وامتيازهم بالفصاحة, حتى بلغوا الذروة في كل ذلك, وعقدوا النوادي وأقاموا في أسواقهم المشهورة مباريات الشعر والخطابة ((وقد فخموا علم الشعر وأبدوا فيه العجائب وكان ميدان القوم إذا تجاروا في الفصاحة والبيان, وتنازعوا فيها قصب الرهان))(6).


         قال حازم القرطاجني: ((إن الإعجاز فيه من حيث استمرت الفصاحة والبلاغة فيه من جميع انحائها في جميعه استمرارا لا توجد له فترة, ولا يقدر عليه أحد من البشر))(7), وعلقوا قصائدهم المعروفة وهي من خيرة الشعر القديم على الكعبة ((إعجابا بها, فلما جاء القرآن أنزلوها إستحقارا لها في جنب جلالته))(8) وقد تحداهم القرآن الكريم ((في ابرع كمالاتهم وأظهر ميزاتهم... ولكن العرب فكرت في بلاغة القرآن فأذعنت لإعجازه))(9). وهذا ما حكاه ابو عبيد القاسم بن سلاّم: ((ان اعرابيا سمع رجلا يقرأ: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنْ الْمُشْرِكِينَ) (الحجر/94) فسجد,    وقال: سجدت لفصاحة هذا الكلام))(10). وعلم البيان ((من  العلوم اللسانية, لأنه متعلق بالألفاظ وما تفيده ويقصد بها الدلالة عليه من المعاني))(11). 


       وقد أشار أئمة اللغة الى ذلك الإرث اللغوي الفصيح للهجة قريش, وعلو مكانته بين اللهجات العربية القديمة وأحست ((العرب بهذه الاستقامة في أساليب القرآن واستيقنت بذلك بلغاؤهم))(12) فوقفوا حائرين أمام معجزة قوامها الكلام لا يقدح في أصالتها, أو في بيانها وهم ((من أهل اللغة المتصرفين فيها))(13).قال الشيخ المظفر: ((ولأجل هذا وجدنا أن معجزة كل نبي تناسب ما يشتهر في عصره من العلوم والفنون))(14).


         واللافت للنظر في بحث السيد الخوئي عن تحديدات الإعجاز ونواحيه-وهو ملحظ فريد-استشهاده برجالات الفصاحة وبكلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(Α)) واعتراف الوليد بن المغيرة بعلو القرآن. 


        قال السيد الخوئي: ((وكفى بالقرآن دليلا على كونه وحيا إلهيا أنه المدرسة الوحيدة التي تخرج منها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(Α)) الذي يفتخر بفهم كلماته كل عالم نحرير, وينهل من بحار علمه كل محقق متبحر. وهذه خطبه في نهج البلاغة, فإنه حينما يوجه كلامه فيها الى موضوع لا يدع فيه مقالا لقائل, حتى ليخال من لا معرفة له بسيرته أنه قد قضى عمره في تحقيق ذلك الموضوع والبحث عنه, فمما لاشك فيه إن هذه المعارف والعلوم متصلــة بالوحي,  ومقتبســة  من أنواره,  لأن من يعرف تاريخ  جزيـرة العــرب -ولاسيما الحجاز- لا يخطر بباله أن تكون هذه العلوم قد أخذت من غير منبع الوحي. ولنعم ما قيل في وصف نهج البلاغة: (إنه دون كلام الخالق, وفوق كلام المخلوقين). بل أعود وأقول: إن تصديق علي(Α))-وهو على ما عليه من البراعة في البلاغة, والمعارف وسائر العلوم-لإعجاز القرآن هو بنفسه دليل على أن القرآن وحي إلهي, فإن تصديقه بذلك لا يجوز أن يكون ناشئا عن الجهل والاغترار, كيف وهو رب الفصاحة والبلاغة, وإليه تنتهي جميع العلوم الإسلامية, وهو المثل الأعلى في المعارف, وقد اعترف بنبوغه وفضله المؤالف والمخالف...وإذن فلا بد من أن يكون تصديقه بإعجاز القرآن تصديقا حقيقيا, مطابقا للواقع, ناشئا عن الإيمان الصادق. وهذا هو الصحيح, والواقع المطلوب))(15).  


         ويقول في موضع آخر عن قصة الوليد بن المغيرة: ((وإن كلمة الوليد بن المغيرة في صفة القرآن تفسر لنا ذلك, حيث قال حين  سأله أبو جهل أن يقول في القرآن قولا: فما أقول فيه؟ فو الله ما منكم رجل أعلم في الأشعار مني ولا أعلم برجزه مني, ولا بقصيده, ولا بأشعار الجن. والله ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا, ووالله إن لقوله لحلاوة, وأنه ليحطم تحته, وأنه ليعلو ولا يعلى...))(16).  


        نرى مما تقدم أن فصحاء العرب قد استذوقوا بلاغة القرآن ((فلم يسعهم إلا التسليم بروعة أثره في النفوس وفي العقول... وتحيروا فيه, فمن قائل: إنه سحر, ومن قائل:إنه شعر, ومن قائل: إنه أساطير الأولين, أو سجع الكهان))(17). 


لأنهم لم يكونوا ((على درجة واحدة من الفهم والذكاء والمعرفة))(18) ولكنهم أدركوا أن القرآن بلغ في فصاحته ((الى أعلى الدرجات وارفع المراتب والغايات))(19). قال أبو هلال العسكري: ((وإنما يعرف إعجازه من جهة عجز العرب عنه, وقصورهم عن بلوغ غايته, في حسنه وبراعته, وسلاسته ونصاعته, وكمال معانيه, وصفاء ألفاظه... ))(20). 


والحكمة الإلهية تقتضي أن يأتي خليفته, بآية تدل على صدق نبوته وهي معجزة القرآن الكريم التي عجز البشر الإتيان بمثلها(21).


  


      القرآن والعلوم والمعارف: 


    لم ينحصر إعجاز القرآن في بلاغته وفصاحته وأسلوبه ((بل هو معجزة ربانية)) وقد تحدث السيد الخوئي عن أمية النبي محمد(9) بقوله: ((ومع أميته فقد أتى في كتابه من المعارف بما أبهر عقول الفلاسفة, وأدهش مفكري الشرق والغرب منذ ظهور الإسلام الى هذا اليوم وسيبقى موضعا لدهشة المفكرين... وهذا من أعظم نواحي الإعجاز))(22) وقد جعل الله نبينا أميا لما ((هو أزكى وأنمى, فإنما نقصه ليزيده, ومنعه ليعطيه, وحجبه عن القليل ليجلي له الكثير))(23).


     وقد أثبتت التجارب العلمية(24) إعجاز القرآن في مختلف فروع المعرفة مما لا يجعل مجالا للشك على أنه كلام الله الذي (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه). 


     يقول السيد كمال الحيدري(25): ((تأسيسا على أن القرآن الكريم يتحدى الإنس والجن بصورة مطلقة على إعجازه في جميع الجهات, فبالإمكان إرجاع عموم التحدي المذكور الى جهات ثلاث, هي: 


1- الجهة الأولى: عموم التحدي من حيث الزمان والمكان. 


2- الجهة الثانية: عموم التحدي على مستوى جميع العلوم والمعارف التي يزخر بها العقل الإنساني. 


3- الجهة الثالثة: عموم التحدي لجميع الناس سواء كانوا من العلماء أم غيرهم.)). 


     وقد حفلت كتب العلوم والدراسات القرآنية الحديثة, بما تناولته من حقائق علمية صرحت بها أعداد كثيرة من آيات القرآن, لتدل على إعجازه العلمي وعلى عظمة الخالق((عز وجل)), وليزداد الناس إيمانا وبصيرة(26), فإن ((من أوجه إعجازه التي تخرص ألسنة كل مكابر الإعجاز العلمي))(27), و((دليل على أنه قادر عالم وصانع حكيم, لم يخلق الناس عبثا))(28) ولذلك قال بعضهم: (أما العلماء المكتشفون: فمن الجدير أن يكونوا أشد الناس إيمانا بالله)(29). فقد أعجز القرآن العرب ((بمعانيه وشرائعه وما اشتمل عليه من العلوم))(30). قال العلامة الطباطبائي(Η  : ((فالقرآن آية للتبليغ في بلاغته وفصاحته, وللحكيم في حكمته, وللعالم في علمه, وللاجتماعي في اجتماعه... ولجميع العالمين))(31). 


     ولقد حاكم القرآن عقول العرب ((وفتح عيونهم الى الكون وما في الكون من سماء وأرض وبر وبحر وحيوان ونبات... وكان القرآن في طريقة عرضه موفقا كل التوفيق, وكان معجزا أبهر الإعجاز))(32).


      لذا اشتمل على جملة من العلوم والمعارف في هداية الخلق وإرشادهم,  على يد رجل نشأ بين الأميين يستحيل أن يأتي بها من عند نفسه, بل هو كلام الله.


 ولقد كانت هذه العلوم الحديثة على اختلافها عونا على تفسير معظم معاني القرآن والكشف عن حقائقه, قال تعالى: ((سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)) (فصلت/53).


       يقول أحد الباحثين: ((ولذلك لا نستغرب من اشتماله على كم ضخم من المفاهيم والبحوث العلمية الدقيقة والمعمقة في مجلات علمية متنوعة... ورد التأكيد على التدبر والتعمق في أغواره باعتباره مرجعا للعلماء والباحثين))(33).


       وهذا النوع من الإعجاز سميّ بالإعجاز المضموني عند بعض الباحثين.  ومن ذلك قول الاستاذ الدكتور عبد الامير كاظم زاهد: ((جوهر الإعجاز فيما أعتقد مضمون فكري لا متناه في المعيارية معبر عن الحقائق المطلقة, ومصوغ  بأرفع الأساليب))(34).  


 


           سلامة القرآن من الاختلاف والتناقض:


        من الوجوه المهمة التي تمثل إحدى حلقات المنهج الذي طرحه القرآن في التحدي والإعجاز.


         قال السيد الخوئي: ((وقد تعرض القرآن الكريم لمختلف الشؤون, وتوسع فيها أحسن التوسع فبحث في الإلهيات ومباحث النبوات, ووضع الأصول في تعاليم الأحكام والسياسات المدنية, والنظم الاجتماعية, وقواعد الأخلاق, وتعرض لأمور أخرى تتعلق بالفلكيات والتاريخ... فلم توجد فيه أية مناقضة ولا أدنى تفاوت))(35).


       وقال في موضع آخر: ((ولعمري أن هذه إحدى الجهات المحسنة لأسلوب القرآن, الذي حاز به الجمال والبهاء, فإنه مع انتقاله من موضوع الى آخر يتحفظ على كمال الربط بينهما, كأن كل جملة منه درة في عقد منتظم...))(36). 


       وفي تفسير قوله تعالى: ((مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ)) (الانعام/38). عن أمير المؤمنين علي(Α))(37): (فيه تبيان كل شيء وذكر أن الكتاب يصدق بعضه بعضا وأنه لااختلاف فيه,  فقال سبحانه: ((وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا)) (النساء/82).


        وأسلوب التكرار معروف في كلام العرب وأشعارهم وتكمن في وجوده أسرار دقيقة وبلاغة عجيبة, وهو معدود من محاسن الفصاحة لتفصيله معاني الكلام(38). قال ابن فارس:   ((ومن سنن العرب التكرير والإعادة, إرادة الإبلاغ بحسب العناية بالأمر))(39).  وهو ((من البديع عندهم))(40) وقد عُدّ من مقاتل علم البيان ووصف بدقة المأخذ(41). وقد تحدث السيد الخوئي عنه قائلا: ((وربما يستعرض الحادثة الواحدة مرتين أو أكثر, فلا تجد فيه أقل تهافت وتدافع وإليك قصة موسى(Α)) فقد تكررت في القرآن مرارا عديدة, وفي كل مرة تجد لها مزية تمتاز بها من غير اختلاف في جوهر المعنى. وإذا عرفت أن الآيات نزلت نجوما متفرقة على الحوادث, علمت أن القرآن روح من أمر الله, لأن هذا التفرق يقتضي بطبعه عدم الملاءمة والتناسب حين يجتمع. ونحن نرى القرآن معجزا في كلتا الحالتين, نزل متفرقا فكان معجزا حال تفرقه, فلما اجتمع حصل له إعجاز آخر, وقد أشار الى هذا النوع من الإعجاز قوله تعالى: ((أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا)) (النساء/82) وهذه الآية تدل الناس على أمر يحسونه بفطرتهم, ويدركونه بغريزتهم وهو أن من يعتمد في دعواه على الكذب والافتراء لابد له من التهافت في القول والتناقض في البيان, وهذا شيء لم يقع في القرآن العزيز))(42). 


      ويلفت السيد الخوئي أنظارنا الى الإتقان في المعاني القرآنية التي عرضها القرآن وهي ((متباعدة الأغراض من الإلهيات والمعارف, وبدء الخلق والمعاد, وما وراء الطبيعة من الروح والملك وإبليس والجن, والفلكيات والأرض والتأريخ, وشؤون فريق من الأنبياء الماضين... والاحتجاجات والأخلاقيات.... والسياسات المدنية والنظم الاجتماعية والحربية, والقضاء والقدر.... والعبادات والمعاملات والفرائض, والحدود والقصاص وغير ذلك, وقد أتى في جميع ذلك بالحقائق الراهنة, التي لا يتطرق إليها الفساد والنقد في أية جهة من جهاتها... وهذا شيء يمتنع وقوعه عادة من البشر))(43). فلم يقف علماء الإعجاز عند أسرار جمال العبارة القرآنية, بل ربطوا الجمال نفسه بأداء المعاني وشفافية التبادر(44). 


 


      الإخبار  بالغيب: 


      وهو وجه قديم جديد من الوجوه الخالدة لبيان إعجاز القرآن, وجه قديم لأنه قد كان ((في جميع ما أخبر به صادقا, لم يخالف الواقع في شيء منها))(45) وجديد فيما يأتي من الأنباء والحوادث الصادقة . وقيمته تكمن في أنه منبع ثر لا ينفد, يلهم الإنسان باستمرار بأن يتدبر القرآن, ويتأمل ويتعظ بما حدث في الأزمان الغابرة من دروس وعبر, واستقراء أحوال البلاد البائدة والنظر في آثارهم  . ولكون الإخبار عن الغيوب الماضية والمستقبلة معجزا, جاء من نقص الإدراك البشري عن أسرار الكون ودقائقه, وقد ركز المعتزلة في مؤلفاتهم الى هذه المسألة, وأخذت جانبا كبيرا في دراستهم لإعجاز القرآن(46). 


      وهي معجزة عقلية لا تدرك إلا بالبصيرة من ذوي العقول. وقد استعرض السيد الخوئي عددا من الآيات التي أنبأت عن الغيب, ومن ذلك قوله تعالى: ((وَإِذْ يَعِدُكُمْ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ)) (الانفال/7). قال السيد الخوئي: ((وقد وفى للمؤمنين بوعده, ونصرهم على أعدائهم, وقطع دابر الكافرين))(47). 


      قال أحد العلماء: ((وإنه ليروعك هذا الإعجاز إذا لاحظت أن هذه الكثرة الغامرة لم تتخلف منها قط نبوءة واحدة, بل وقعت كما أنبأ على الحال الذي أنبأ, ولو تخلفت واحدة لقامت الدنيا وقعدت... ويزيد في أمر هذا الإعجاز أن المتحدث بهذه الأنباء الغيبية أميّ نشأ في الأمّيين, وان من هذه الأنباء ما كان تحديا وإجابة لسؤال العلماء من أهل الكتاب, كما سألوه(9) عن أصحاب الكهف وذي القرنين وعن الروح ونحوها))(48). 


       وفي قوله تعالى: ((غُلِبَتْ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ)).(الروم/1-2) قال السيد الخوئي: ((وقد وقع ما أخبرت به الآية بأقل من عشر سنين, فغلب ملك الروم, ودخل جيشه مملكة الفرس))(49).


 


 


          الدفاع عن القرآن برد الشبهات: 


       وهو إذ يدفع عن أسلوب القرآن ونظمه, معظم الاعتراضات التي أثيرت في قضية الإعجاز بروح إيمانية ثابتة ويبطل تلكم الشبهات, يثبت إعجاز القرآن في نظمه وحسن تأليفه, ودقة اختياره للكلمات واعتدال منهجه. وقد تصدى السيد الخوئي لدرء المطاعن والشبهات ببيان زيفها متسلحا بأدوات النقد العلمي الحديثة, وبمعارف وثقافات واسعة وذهن خصب وعلم غزير. 


        وهدم أقاويل المغرضين, ثم بناء قضايا العقيدة خالصة من الشوائب, إذ أثار الملحدون جملة من الاعتراضات الباطلة ضد القرآن بغية إنكار إعجازه, وهي قضية جابهت الإسلام والمسلمين إذ ((دلف منها المغرضون يبغون تحطيم العقيدة وقدسية الوحي وروعة الجهاد))(50) منادين أن هذا القرآن غير معجز. 


        وقد وضح ابن قتيبة ذلك بقوله: ((وقد اعترض كتاب الله بالطعن ملحدون ولغو فيه وهجروا... ثم قضوا عليه بالتناقض والاستحالة واللحن وفساد النظم والاختلاف))(51).


        دفع السيد الخوئي معظم الشبهات والشكوك التي وجهت الى  القرآن الكريم أو التي كان يتوقع أن تطرح في الساحة, وأثبت امتياز القرآن عن غيره من المعجزات, برد المذاهب الفاسدة ومنها هدم فكرة الصرفة التي نادى بها (النظام)(52). 


        ووضع عنوانا جريئا اسماه (أوهام حول إعجاز القرآن) ((نسجتها الأخيلة حول عظمة القرآن))(53). ومن ذلك قوله: (وقالوا: ان الكلام البليغ-وإن عجز البشر عن الإتيان بمثله- لا يكون معجزا, فإن معرفة بلاغته تختص ببعض البشر دون بعض,  والمعجز لابد وأن يعرف إعجازه جميع أفراد البشر, لأن كل فرد منهم مكلف بتصديق نبوة صاحب ذلك المعجز. الجواب: وهذه شبهة تشبه ما تقدمها في ضعف الحجة, وتفكك القياس. فإن المعجز لا يشترط فيه أن يدرك إعجازه كل البشر, ولو اشترطنا ذلك لم يسلم لنا معجز أصلا, فإن إدراكه يختص بجماعة خاصة, ويثبت لغيرهم بالنقل المتواتر. وقد ذكرنا إمتياز القرآن عن غيره من المعجزات, بأن التواتر قد ينقطع في مرور الزمان. وأما القرآن فهو معجزة باقية أبدية ببقاء الامة العربية, بل ببقاء من يعرف خصائص اللغة العربية, وإن لم يكن عربيا))(54).     


 


  


هوامش البحث


(1)    ينظر/الإعجاز بين النظرية والتطبيق/محاضرات السيد كمال الحيدري: ص111-112.


(2)   الطراز لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز: 3/206. 


 (3)  تاريخ آداب العرب للرافعي: 136. 


(4)   دلائل الاعجاز: 389.


 (5)  ظ. العمدة: 1/78 , والبيان في تفسير القرآن للسيد الخوئي: 47 ,  


(6)   دلائل الإعجاز: 9.


(7)    منهاج البلغاء وسراج الادباء:  389 , ظ. البرهان للزركشي: 2/101. 


(8)    نفحات الاعجاز ((ضمن مجمع الرسائل للسيد الخوئي)): 6.   


(9)    البيان للسيد الخوئي: 49.


(10)   علوم القرآن عند المفسرين: 2/427.


(11)    مقدمة ابن خلدون: 2/55. 


(12)    البيان للخوئي: 67. 


(13)   إعجاز القرآن للرافعي: 194. 


(14)    عقائد الامامية: 51-52. 


(15)    البيان للخوئي: 88-89.


(16)    المصدر نفسه: 67-68. 


(17)    أثر القرآن في تطور النقد العربي: 29.


(18)    تطور دراسات إعجاز القرآن وأثرها في البلاغة العربية, د. عمر الملا حويش: 100. 


(19)    نهاية الإيجاز في دراية الاعجاز للرازي: 72.    


(20)    كتاب الصناعتين: 7 


(21)    ظ. المصطلحات الإسلامية لمرتضى العسكري: 71.  


(22)    البيان للخوئي: 55.


(23)   البيان والتبيين للجاحظ: 32.


(24)    المعجزة  الصوتية للقرآن الكريم (بحث منشور): 14. 


(25)    الإعجاز بين النظرية والتطبيق: 145. 


(26)    ظ. الخطيب الاسكافي وجهوده في بيان إعجاز القرآن في كتابه درة التنزيل وغرة التأويل.   


             منذر ابراهيم حسين الحلي, (رسالة ماجستير-كلية الآداب/جامعة  القادسية 2000م): 149.


(27)    القرآن والعلم الحديث: 27. 


(28)    درة التنزيل وغرة التأويل للخطيب الاسكافي (ت 420هـ): 513. 


(29)    العقائد الاسلامية: 40. 


(30)    القرآن يتحدى: 127. 


(31)    الميزان في تفسير القرآن: 1/62. 


(32)    مناهل العرفان: 20.


(33)    مراجعات قرآنية: 10.  


(34)     ظواهر دلالية في التعبير القرآني مقاربة في المضمون وأدوات التعبير/بحث للدكتور عبد الامير 


             كاظم زاهد, مجلة مآب ع2 , 2007م : 22.


(35)     البيان للخوئي: 66.   


(36)     المصدر نفسه: 106. 


(37)     شرح نهج البلاغة لمحمد عبده: 55. 


(38)     ظ. الخطيب الاسكافي وجهوده في بيان إعجاز القرآن في كتابه درة التنزيل وغرة التأويــــــل. 


              منذر ابراهيم حسين الحلي, (رسالة ماجستير-كلية الآداب/جامعة  القادسية, 2000م): 94.


(39)     الصاحبي : 341. 


(40)      إعجاز القرآن للباقلاني: 160. 


(41)      المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر لابن الاثير: 2/157. 


(42)      البيان للخوئي: 66-67, و ظ. نفسه : 106. 


(43)      البيان للخوئي: 78-79. 


(44)      ظ. مقدمات منهجية في تحليل النص القرآني -آيات الأحكام  أنموذجا-, بحث للدكتــــــور 


             عبد الامير كاظم زاهد, مجلة الكلية الإسلامية الجامعة, ع1 /2006م : 128.


(45)      البيان للخوئي: 79. 


(46)      ظ. إعجاز القرآن بين المعتزلة والاشاعرة : 14, وتطور دراسات اعجاز القرآن: 242.


 (47)      البيان للخوئي: 80. 


(48)       مناهل العرفان : 490. 


(49)       البيان للخوئي :  81. 


(50)        إعجاز القرآن بين المعتزلة والاشاعرة : 159. 


(51)        تأويل مشكل القرآن : 22. 


(52)        ظ. البيان للخوئي : 93-95. 


(53)     البيان للخوئي: 93.


(54)      البيان للخوئي: 94-95. 


 


 


 


 


خاتمة البحث


       كشف البحث عن منهجية متميزة للسيد الخوئي في بيان إعجاز القرآن بإسلوب علمي دقيق, جمع بين مرجعيات التراث, وآليات المعاصرة وقد عني به العلماء-قديما وحديثا- بمختلف الثقافات والملل, وتنوع العلوم والفنون.


        وكانت مهمتهم في ذلك الموضوع, دحض الافتراءات والمجادلات الفاسدة, والادعاءات الباطلة, والكشف عن زيفها بالحجج الدامغة, وإبراز روعة القرآن وجمالياته المعجزة بالبراهين الساطعة. 


         وقد تابع الخوئي ممن تقدمه من المفسرين في الدفاع عن قصص القرآن الواقعية برد القصص الخرافية التي ذكروها في كتب العهدين. وكان من منهجه طرح الأسئلة المتوقعة من المعاندين, والإجابة عنها بروح علمية لا تقبل الشك, واستعراض الآيات المباركات الدالة على الإعجاز المتنوع الذي حدده في البيان والأسلوب البليغ, والاستقامة العجيبة, وسلامته من الاختلاف والتناقض المزعوم, واشتماله على العلوم والمعارف, والإخبار بالغيبات الماضية والمستقبلة. 


والحمد لله رب العالمين.


 


 


تم بعنايته وفضله سبحانه وتعالى 


      في النجف الأشرف محرم 1432هـ


      ك1/2010م